فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتعقبه أبو حيان بأن زيادة الفاء في الخبر لا تجوز هنا إلا على مذهب الأخفش في إجازته وزيادتها في الخبر مطلقًا نحو زيد فقام أي قام، ثم قال: ولا يتوهم أن هذه الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان موصولًا وضمن معنى الشرط لأنها لا يجوز دخولها في مثل هذا الفعل مع صريح أداة الشرط فلا يجوز مع ما ضمن معناه، اه بلفظه.
ونقل شهاب عنه أنه قال: إن المنع مع ما ضمن معناه أولى.
وتعقبه بأن كونه أولى غير مسلم لأن امتناع الفاء معه لأنه لقوته لا يحتاج إلى رابط إذا صح مباشرته للفعل وما تضمن معناه ليس كذلك، وكلامه الذي نقلناه لا يشعر بالأولوية فلعله وجد له كلامًا آخر يشعر بها.
واستظهر هو الجر على الوصفية ثم قال: فيكون ذلك داخلًا في المقول، فإن كان القول يوم القيامة يكون {تتوفاهم} بصيغة المضارع حكاية للحال الماضية، وإن كان في الدنيا أي لما أخبر سبحانه أنه يخزيهم يوم القيامة ويقول جل وعلا لهم ما يقول قال أهل العلم: إن الخزي اليوم الذي أخبر الله تعالى أنه يخزيهم فيه والسوء على الكافرين يكون {تتوفاهم} على بابه، ويشمل من حيث المعنى من توفته ومن تتوفاه، وعلى ما ذكره ابن عطية يحتمل أن يكون {الذين} إلى آخره من كلام الذين أوتوا العلم وأن يكون إخبارًا منه تعالى، والظاهر أن القول يوم القيامة فصيغة المضارع لاستحضار صورة توفى الملائكة إياهم كما قيل آنفًا لما فيها من الهول، وفي تخصيص الخزي والسوء بمن استمر كفره إلى حين الموت دون من آمن منهم ولو في آخر عمره، وفيه تنديم لهم لا يخفى أي الكافرين المستمرين على الكفر إلى أن تتوفاهم الملائكة {ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} أي حال كونهم مستمرين على الشرك الذي هو ظلم منهم لأنفسهم وأي ظلم حيث عرضوها للعذاب المقيم {فَأَلْقَوُاْ السلم} أي الاستسلام كما قاله الأخفش وقال قتادة: الخضوع، ولا بعد بين القولين.
والمراد عليهما أنهم أظهروا الانقياد والخضوع، وأصل الالقاء في الأجسام فاستعمل في إظهارهم الانقياد وإشعارًا بغاية خضوعهم وانقيادهم وجعل ذلك اكلشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب.
والجملة قيل عطف على قوله تعالى: {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ} [النحل: 27]، وما بينهما جملة اعتراضية جيء بها تحقيقًا لما حاق بهم من الخزى على رؤوس الاشهاد.
وكان الظاهر فيلقون إلى آخره إلا أنه عبر بصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع أي يقول لهم سبحانه ذلك فيستسلمون وينقادون ويتركون المشاقة وينزلون عما كانوا عليه في الدينا من الكبر وشدة الشكيمة، ولعله مراد من قال: إن الكلام قد تم عند قوله تعالى: {أَنفُسِهِمْ} ثم عاد إلى حكاية حالهم يوم القيامة، وقيل: عطف على {قَالَ الذين} [النحل: 27].
وجوز أبو البقاء وغيره العطف على {تتوفاهم} واستظهره أبو حيان، لكن قال الشهاب: إنه إنما يتمشى على كون {تتوفاهم} بمعنى الماضي، وقد تقدم لك القول بأن الجملة خبر {الذين} مع ما فيه.
واعترض الأول بأن قوله تعالى: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء} إما أن يكون منصوبًا بقول مضمر وذلك القول حال من ضمير {أَلْقَوْاْ} أي ألقوا السلم قائلين ما كنا إلى آخره أو تفسيرًا للسلم الذي ألقوه بناء على أن المراد به القول الدال عليه بدليل الآية الأخرى {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول} [النحل: 86]، وأيامًا كان فذلك العطف يقتضي وقوع هذا القول منهم يوم القيامة وهو كذب صريح ولا يجوز وقوعه يومئذ.
وأجيب بأن المراد ما كنا عاملين السوء في اعتقادنا أي كان اعتقادنا أن عملنا غير سيء، وهذا نظير ما قيل في تأويل قولهم {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، وقد تعقب بأنه لا يلائمه الرد عليهم {حَكِيمٌ إِنَّ الله} إلى آخره لظهور أنه لإبطال النفي ولا يقال: الرد على من جحد واستيقنت نفسه لأنه يكون كذبًا أيضًا فلا يفيد التأويل.
ومن الناس من قال بجواز وقوع الكذب يوم القيامة، وعليه فلا اشكال، ولا يخفى أن هذا البحث جار على تقدير كون العطف على {قَالَ الذين} [النحل: 27]. أيضًا إذ يقتضي كالأول وقوع القول يوم القيامة وهو مدار البحث.
واختار شيخ الإسلام عليه الرحمة العطف السابق وقال: إنه جواب عن قوله سبحانه: {أَيْنَ شُرَكَائِىَ} [النحل: 27]، وأرادوا بالسوء الشرك منكرين صدوره عنهم، ونفى أن يكون جوابًا عن قول أولى العلم ادعاء لعدم استحقاقهم لما دهمهم من الخزى والسوء، ولعله متعين على تقدير العطف على {قَالَ الذين} [النحل: 27]. إلى آخره، وإذا كان العطف على {تتوفاهم الملائكة} كان الغرض من قولهم هذا الصادر منهم عند معاينتهم الموت استعطاف الملائكة عليهم السلام بنفي صدور ما يوجب استحقاق ما يعانونه عند ذلك، وقيل: المراد بالسوء الفعل السيء أعم من الشرك وغيره ويدخل فيه الشرك دخولًا أوليًا أي ما كنا نعمل سوأ ما فضلا عن الشرك، و{مِنْ} على كل حال زائدة و{سُوء} مفعول لنعمل {بلى} رد عليهم من قبل الله تعالى أو من قبل أولى العلم أو من قبل الملائكة عليهم السلام، ويتعين الأخير على كون القول عند معاينة الموت ومعاناته أي بلى كنتم تعلمون ما تعملون.
{إنَّ اللَّهَ عَليمٌ بمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فهو يجازيكم عليه وهذا أوانه.
{فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ}.
خطاب لكل صنف منهم أن يدخل بابًا من أبواب جهنم، والمراد بها اما المنفذ أو الطبقة، ولا يجوز أن يكون خطابًا لكل فرد لئلا يلزم دخول الفرد من الكفار من أبواب متعددة أو يكون لجهنم أبواب بعدد الأفراد، وجوز أن يراد بالأبواب أصناف العذاب، فقد جاء إطلاق الباب على الصنف كما يقال: فلان ينظر في باب من العلم أي صنف منه وحينئذ لا مانع في كون الخطاب لكل فرد، وأبعد من قال: المراد بتلك الأبواب قبور الكفرة المملوءة عذابًا مستدلًا بما جاء: «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» {خالدين فِيهَا} حال مقدرة أن أريد بالدخول حدوثه، ومقارنة ان أريد به مطلق الكون، وضمير {فِيهَا} قيل: للأبواب بمعنى الطبقات، وقيل: لجهنم، والتزم هذا وكون الحال مقدرة من أبعد، وحمل الخلود على المكث الطويل للاستغناء عن هذا الالتزام وان كان واقعًا في كلامهم خلاف المعهود في القرآن الكريم {فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} أي عن التوحيد، وذكرهم بعنوان التكبر للاشعار بعليته لثوائهم فيها، وقد وصف سبحانه الكفار فيما تقدم بالاستكبار وهنا بالتكبر، وذكر الراغب أنهما والكبر تتقارب فالكبر الحالة التي يتخصص بها الإنسان من اعجابه بنفسه، والاستكبار على وجهين: أحدهما أن يتحرى الإنسان ويطلب أن يصير كبيرًا، وذلك متى كان على ما يحب وفي المكان الذي يحب وفي الوقت الذي يحب وهو محمود.
والثاني أن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له وهو مذموم، والتكبر على وجهين أيضًا.
الأول أن تكون الأفعال الحسنة كثيرة في الحقيقة وزائدة على محاسن غيره، وعلى هذا وصف الله تعالى بالمتكبر.
والثاني أن يكون متكلفًا لذلك متشبعًا وذلك في وصف عامة الناس، والتكبر على الوجه الأول محمود وعلى الثاني مذموم، والمخصوص بالذم محذوف أي جهنم أو أبوابها أن فسرت بالطبقات؛ والفاء عاطفة، واللام جيء بها للتأكيد اعتناء بالذم لما أن القوم ضالون مضلون كما ينبىء عنه قوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25]، وللتأكيد اعتناء بالمدح جيء باللام أيضًا فيما بعد من قوله سبحانه: {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين} [النحل: 30]. لأن أولئك القوم على ضد هؤلاء هادون مهديون، وكأنه لعدم هذا المقتضى في آيتي الزمر والمؤمن لم يؤت باللام، وقيل: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} [الزمر: 72]، وقيل: التأكيد متوجه لما يفهم من الجملة من أن جهنم مثواهم، وحيث أنه لم يفهم من الآيات قبل هنا فهمه منها قبل آيتي تينك السورتين جيء بالتأكيد هناك ولم يجىء به هنا اكتفاء بما هو كالصريح في إفادة أنها مثواهم مما ستسمعه إن شاء الله تعالى هناك. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار الذين كانا قبل كفار مكة قد مكروا، وبين ذلك في مواضع أخر، كقول: {وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا} [الرعد: 42]، وقوله: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} [إبراهيم: 46].
وبين بعض مكر كفار مكة بقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30]. الآية.
وذكر بعض مكر اليهود بقوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54].
وبين بعض مكر قوم صالح بقوله: {وَمَكَرُواْ مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 50-51].
وذكر مكر قوم نوح بقوله: {وَمَكَرُواْ مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح: 22-23]. الآية.
وبين مكر رؤساء الكفار في قوله: {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بالله} [سبأ: 33]. الآية، والمكر: إظهار الطيب وإبطان الخبيث، وهو الخديعة، وقد بين جل وعلا أنا لمكر السيىء لا يرجع ضرره إلا على فاعله، وذلك في قوله: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].
قوله تعالى: {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد} أي اجتثه من أصله واقتلعه من أساسه. فأبطل عملهم وأسقط بنيانهم، وهذا الذي فعل بهؤلاء الكفار الذين هم نمروذ وقومه- كما قدمنا في سورة الحجر فعل مثله أيضًا يغيرهم من الكفار. فأبطل ما كانوا يفعلون ويدبرون. كقوله: {ووَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137]، وقوله: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} [المائدة: 64]، وقوله: {فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار} [الحشر: 2]. غلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة}.أي يفضحهم على رؤوس الأشهاد ويهينهم بإظهار فضائحهم، وما كانت تجنه ضمائرهم، فيجعله علانية.
وبين هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القبور وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور} [العاديات: 9-10]. أي أظهر علانية ما كانت تكنه الصدور، وقوله: {يَوْمَ تبلى السرآئر} [الطارق: 9].
وقد بين جل وعلا في موضع آخر: أن من أدخل الناء فقد ناله هذا الخزي المذكور، وذلك في قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]، وقد قدمنا في سورة هود إيضاح معنى الخزي.
قوله تعالى: {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة. أنه يسأل المشركين يوم القيامة سؤال توبيخ، فيقول لهم: أين المعبودات التي كنتم تخاصمون رسلي وأتباعهم بسببها، قائلين: إنكم لابد لكم أن تشركوها معي في عبادتي!
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62]، وقوله: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ} [الشعراء: 92-93]، وقوله: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} [غافر: 73-74]. الآية، وقوله: {حتى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} [الأعراف: 37]. الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقرأ عامة القراء {شُرَكَائِيَ} بالهمزة وياء المتكلم، ويروى عن ابن كثير من رواية البزي أنه قرأ: {شركاي} بياء المتكلم دون همز، ولم تثبت هذه القراءة.
وقرأ الجمهور: {تشاقون} بنون الرف مفتوحة مع حذ المفعول.
وقرأ نافع: {تشاقون} بكسر النون الخفيفة التي هي نون الوقاية، والمفعول به ياء المتكلم المدلول عليها بالكسرة مع حذف نون الرفع، لجواز حذفها من غير ناصب ولا جازم إذا اجتمعت مع نون الوقاية، كما تقدم تحريره في سورة الحجر في الكلام على قوله: {فبم تبشرون}.
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)}.
قوله تعالى: {فَأَلْقَوُاْ السلم} أي الاستسلام والخضوع، والمعنى: أظهروا كمال الطاعة والانقياد، وتركوا ما كانوا عليه من الشقاق، وذلك عندما يعاينون الموت، أو يوم القيامة. يعني أنهم في الدنيا يشاقون الرسل: اي يخالفونهم ويعادونهم، فإذا عاينوا الحقيقة ألقو السلم: اي خضعوا واستسلموا وانقادوا حيث لا ينفعهم ذلك.
ومما يدل من القرآن على أن المراد بإلقاء السلم: الخضوع والاستسلام قوله: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94]. على قراءة نافع وابن عامر وحمزة بلا ألف بعد اللام. بمعنى الانقياد والإذعان، وقوله: {فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم} [النساء: 90]، وقوله: {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ويلقوا إِلَيْكُمُ السلم} [النساء: 91]. الآية.
والقول بأن السلم في الآيتين الأخيرتين: الصلح والمهادنه لا ينافي ما ذكرنا. لأن المصالح منقاد مذعن لما وافق عليه من ترك السوء، وقوله: {وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [النحل: 87]. فكله بمعنى الاستسلام والخضوع والانقياد، والانقياد عند معاينة الموت لا ينفع، كما قدمنا، وكما دلت عليه آيات كثيرة. كقوله: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن} [النساء: 18]. الآية، وقوله: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85]. الآية، وقوله: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} [يونس: 91]، إلى غير ذلم من الآيات.
وقوله تعالى: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} يعني أن الذين تتوفاهم الملائكة في حال كونهم ظالمي أنفسهم إذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم وقالوا: ما كنا نعمل من سوء. فقول {ما كنا نعمل من سوء} مهمول قول محذوف بلا خلاف.
والمعنى: أنهم ينكرون ما كانوا يعملون من السوء، وهو الكفر وتكذيب الرسل والمعاصي، وقد بين الله كذبهم بقوله: {بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
وبين في مواضع أخر: أنهم ينكرون ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي كما ذكر هنا، وبين كذبهم في ذلك أيضًا. كقوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 23-24]، وقوله: {قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين} [غافر: 74]، وقوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} [المجادلة: 18]، وقوله: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا} [الفرقان: 22]. اي حرامًا محرمًا أن تمسونا بسوء. لأنا لم نفعل ما نستحق به ذلك، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله هنا {بلى} تكذيب لهم في قولهم {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء}.
تنبيه:
لفظة {بلى} لا تأتي في اللغة العربية إلا لأحد معنيين لا ثالث لهما:
الأول: أن تأتي لإبطال نفي سابق في الكلام، فهي نقيضة {لا}.
لأن {لا} لنفي الإثبات، و{بلى} لنفي النفي. كقوله هنا: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} فهذا النفي نفته لفظة {بلى} أي كنتم تعملون السوء منالكفر والمعاصي، وكقوله: {زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7]، وكقوله: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]، وقوله: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 111]. فإنه نفي هذا النفي بقوله جل وعلا {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ} [البقرة: 112]. الآية، ومثل هذا كثير في القرآن وفي كلام العرب.
الثاني: أن تكون جوابًا لاستفهام مقترن بنقي خاصة. كقوله: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172]، وقوله: {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى} [يس: 81]، وقوله: {قالوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات قَالُواْ بلى} [غافر: 50]، وهذا أيضًا كثير في القرآن وفي كلام العرب. أما إذا كان الاستفهام غير مقترن بنفي فجوابه بنعم لا ببلى وجوواب الاستفهام المقترن بنفي نعم مسموع غير قياسي. كقوله:
أليس الليل يجمع أم عمرو ** وإيانا فذاك لنا تداني

نعم وترى الهلال كما أراه ** ويعلوها النهار كما علاني

فالمحل لبلى لا لنعم في هذا البيت.
فإن قيل: هذه الآيات تدل على أن الكفار يكتمون يوم القيامة ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي، كقوله عنهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، وقوله: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء}، ونحو ذلك. مع أن الله صرح بأنهم لا يكتمون حديثًا في قوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثًا} [النساء: 42].
فالجواب- هو ما قدمنا من أنهم يقولون بألسنتهم: والله ربنا ما كنا مشركين. فيختم الله على افواههم، وتتكلم ايديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون. فالكتم باعتبار النطق بالجحود وبالألسنة، وعدم الكتم باعتبار شهادة أعضائهم عليهم، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} الآية.
لم يبين هنا عدد أبوابها، ولكنه بين ذلك في سورة الحجر في قوله جل وعلا: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} [الحجر: 44]، أرجو أيعيذنا وإخواننا المسلمين منها ومن جميع أبوابها! إنه رحيم كريم. اهـ.